بحث حول ظهور فكرة العقود الإدارية
لم تظهر فكرة العقود الإدارية ألا في تاريخ متأخر لا يتجاوز مطلع القرن العشرين , وقد مر تحديد مفهوم نظرية العقود الإدارية وأسسها العامة بتطور استغرق حقبة طويلة من الزمن .
وفي هذا البحث نتناول بالدراسة نشأة نظرية العقود الإدارية , ثم نبحث في استقلال هذه النظرية والتعريف بالعقد الإداري .
المبحث الأول
نشأة العقود الإدارية
حظيت مشكلة تحديد نشاط السلطة العامة باهتمام كبير من رجال القانون والإدارة، واختلف هذا الاهتمام تبعاً للأفكار السياسية التي يؤمن بها كل منهم .
ولعل أبرز مذهبين كان لهما التأثير في هذا المجال هما المذهب الفردي الحر والمذهب التدخلي المعاصر ، حيث وضع كل منهما أسلوباً محدداً لدور الدولة ووظيفتها في مختلف المجالات وفقاً للفلسفة السياسية التي يؤمن بها .
وكان لانتصار مفهوم الدولة التدخلية وتوسيع مجال نشاط السلطة العامة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وانتشار المرافق العامة المهنية والاقتصادية الفضل في خلق مبادئ قانونية جديدة هي مبادئ القانون الإداري تتميز عن قواعد القانون الخاص وتتماشى مع طبيعة نشاط الإدارة وهدفها ولا تغفل في الوقت نفسه حقوق الأفراد وحرياتهم ، وساهم في ذلك بشكل كبير مجلس الدولة الفرنسي الذي يعود له الفضل في تأسيس العديد من نظريات القانون الإداري ومنها نظرية العقود الإدارية .
وقد طبقت مصر أحكام العقود الإدارية عقب إنشاء مجلس الدولة في عام 1964 واختص مجلس الدولة بنظر منازعات العقود الإدارية بصدور القانون رقم 9 لسنة 1949.
المبحث الثاني
استقلال نظرية العقود الإدارية
نشأ الكثير من الجدل حول الطبيعة القانونية للعقود التي تبرمها الدولة مع الغير ، وقد دار هذا النقاش بين قدسية الالتزامات التعاقدية وبين امتيازات الدولة التشريعية والإدارية التي تمارس من خلال أجهزتها لتحقيق المصلحة العامة .( )
ولا شك أن العقد الإداري ناتج عن توافق ارادتين على إنشاء الالتزام شأنه شأن عقود القانون الخاص وفي هذا المعنى يتضح أن العناصر الأساسية في كلا العقدين واحدة، فيجب أن يتوافر الرضا ويجب أن يكون صحيحاً وصادراً من الجهة الإدارية المختصة ، وسليماً من العيوب.
ألا فيما يتعلق بالأهلية ، فأحكامها في العقد الإداري ليست كما هي عليه في العقد المدني لاختلاف أهلية الإدارة عن أهلية الشخص الطبيعي في الحكم .( )
كما يتميز العقد الإداري في أن الإدارة تكون دائماً طرفاً فيه ، وأن تكوينه وأن كان يتم بتوافق إدراتين لا يكون بمجرد إفصاح فرد معين من أعضاء السلطة الإدارية عن أرادته و إنما يتكون من عدة أعمال قانونية ، يشترك فيها أكثر من عضو من أعضاء السلطة الإدارية ، لأن الاختصاصات الإدارية لا ترتكز في يد واحدة. ( )
كذلك يجب أن يتوافر السبب في العقود الإدارية مثلما هو الحال بالنسبة لعقود القانون الخاص مع ضرورة أن يكون الباعث الدافع في العقود الإدارية هو تحقيق المصلحة العامة .
وكما هو الشأن في عقود القانون الخاص يجب أن يكون السبب موجوداً ومشروعاً وألا عد العقد باطلاً . من جهة أخرى يشترط في محل العقد الإداري أن يكون محدداً أو قابلاً للتحديد ومشروعاً . ( )
والمحل يتمثل في الحقوق والالتزامات التي ينشئها العقد على طرفيه كما هو الحال في عقود القانون الخاص مع ضرورة الذكر بأن محل العقد الإداري يتميز بمرونة خاصة توفرها الامتيازات الممنوحة لجهة الإدارة والتي تخولها تعديل التزامات المتعاقدين في بعض الأحيان تحقيقاً للمصلحة العامة .
وبسبب التشابه الكبير بين الأركان في هذين العقدين ، لم يتفق الشراح على موقف واحد إزاء استقلال نظرية العقد الإداري عن النظرية التقليدية لعقود القانون الخاص ، وقد برز اتجاهان :
الاتجاه الأول :
ذهب الأستاذ Dugit إلى أنه لا يوجد فرق أساسي بين العقد المدني والعقد الإداري لأنهما متفقان في عناصرهما الجوهرية فالعقد الإداري يتمتع دائماً بالخصائص نفسها والآثار عينها .
وعلى هذا الأساس لا يوجد عقد إداري متميز عن العقود التي تبرم بين الأفراد ولكن يوجد اختلاف في الاختصاص القضائي فقط إذ يرفع النزاع أمام القضاء الإداري لأن الإدارة تبرز في العقد بصفتها سلطة عامة وبقصد تسيير مرفق عام وإدارته . والفرق بين هذه العقود والعقود المدنية يشبه تماما الفرق بين العقد المدني والعقود التجارية التي تخضع للمحاكم التـجارية لاستهدفها أغراضـا تجارية . ( )
الاتجاه الثاني:
يمثل هذا الاتجاه الذي يختلف عن السابق طائفـة من الفقـهاء منهم الأستاذ . Jeze ( ) و de laubadere .( ) اللذان ذهبا إلى أن النظام القضائي في القانون الإداري نظام خاص مستقل عن نظام القانون الخاص لاختلاف منابعهما ومصادرهما القانونية الأساسية ، كما أن العقود الإدارية تختلف هي أيضاً عن عقود القانون الخاص من حيث نظام منازعاتها والقواعد الأساسية التي تختلف بصورة عامة عن قواعد القانون المدني وتناقضها أحياناً ، وهذه الخصوصية تمليها متطلبات المصلحة العامة التي تهدف العقود الإدارية إلى تحقيقها .
والحق أنه لا يمكننا التسليم بما ذهب إليه الاتجاه الأول وأن كان ينطوي على حقيقة مفادها وجود نقاط توافق كبيرة بين العقود الإدارية وعقود القانون الخاص ، ألا أن هذا التوافق لا ينفي وجود نظام قانوني متميز يخضع له العقد الإداري ، ينبذ الفكرة القائلة بوحدة العقد سواء إبرام بين الأفراد أم بينهم وبين الدولة.
ففي الوقت الذي تكون فيه المصالح متكافئة والمتعاقدان متساويين في عقود القانون الخاص نجد أن المصلحة العامة في ظل عقود القانون العام تتميز بالأولوية إذ تقدم المصلحة العامة للإدارة على المصلحة الخاصة للأفراد .( )
والإدارة بهذه الحال وبوصفها قائمة على تحقيق المصلحة العامة تتمتع بحقوق و امتيازات لا يتمتع بها المتعاقد معها تخولها حق مراقبة تنفيذ العقد وتوجيه المتعاقد نحو الأسلوب الأصلح في التنفيذ ، وحق تعديل شروط العقد بإرادتها المنفردة ، دون أن يستطيع المتعاقد أن يتمسك بقاعدة أن العقد شريعة المتعاقدين يضاف إلى ذلك بعض الحقوق و الامتيازات الأخرى التي لا مثيل لها في عقود القانون الخاص ، التي لا تهدر مصلحة المتعاقد وإنما تجعل مصلحته ثانوية بالنسبة للمصلحة العامة .( )
المبحث الثالث
التعريف بالعقد الإداري
اختلف القضاء و الفقه في وضع تعريف محدد للعقود الإدارية، وقد حاول القضاء الإداري في فرنسا ومصر والعراق حسم هذا الخلاف بتحديد المبادئ الرئيسية للعقود الإدارية.
وفي ذلك عرفت المحكمة الإدارية العليا في مصر العقد الإداري بأنه” العقد الذي يبرمه شخص معنوي من أشخاص القانون العام بقصد إدارة مرفق عام أو بمناسبة تسييره، وأن تظهر نيته في الأخذ بأسلوب القانون العام، وذلك بتضمين العقد شرطاً أو شروطاً غير مألوفة في عقود القانون الخاص”.( )
وقد أيد جانب كبير من الفقهاء في مصر هذا الاتجاه، منهم الدكتور سليمان محمد الطماوي، الذي ذهب إلى أن العقد الإداري” هو العقد الذي يبرمه شخص معنوي عام بقصد تسيير مرفق عام أو تنظيمه، وتظهر في نية الإدارة في الأخذ بأحكام القانون العام، وآية ذلك أن يتضمن شروطاً استثنائية وغير مألوفة في القانون الخاص أو يخول المتعاقد مع الإدارة الاشتراك مباشرة في تسيير المرفق العام” . ( )
ويبدو أن الرأي الغالب سواء في مصر أم العراق قد أستقر على أن العقد يكتسب صفته الإدارية إذا توافرت فيه ثلاثة عناصر هي :
1- أن يكون أحد طرفي العقد شخصاً معنوياً.
2- أن يتصل هذا العقد بمرفق عام .
3- أن تختار الإدارة وسائل القانون العام .