هل التجريب ممكن في البيولوجيا أم مستحيل؟ إلى أي مدى يمكن أن نطبق خطوات المنهج التجريبي على الظاهر الحية؟
مقدمة: إن البيولوجيا علم الكائنات الحية ولما كانت علما حديثا فإنها تريد أن تنمو على منوال المناهج التي كانت عاملا في نجاح علوم المادة الجامدة غير أنها ككل علم لا بد أن تحافظ على طبيعة موضوعها وعلى تفسيراتها الخاصة ولذلك فعلم البيولوجيا أراد أن يأخذ من العلوم الفيزيائية والكيميائية المنهج التجريبي وتريد في الوقت نفسه الاحتفاظ بحوادثه وقوانينه الخاصة فكيف يتطبق المنهاج العلمي الذي وضع خصيصا لدراسة المادة الجامدة على علم يسير أغوار الحوادث الحية؟ ونتيجة لهذا التساؤل ظهر رأيين مختلفين منهم من اعتقد أن هناك إمكانية كبيرة جدا لتطبيق المنهج العلمي في البيولوجيا.
القضية1: عرض الموقف الأول الذي يرى أن التطبيق غير ممكن في البيولوجيا ولا شك أن تطبيق المنهج التجريبي في دراسة الكائنات الحية قد اصطدمت بصعوبات منها: 1-تتمثل في بنية وتركيب المادة الحية فهي عبارة عن وحدة عضوية فكل جزء فيها تابع للكل ولكل الأجزاء فالكامل بين الأعضاء والأنسجة والخلايا يجعل عملية التحليل صعبة فالكائن الحي أجزاؤه متآزرة متساندة ضف إلى ذلك صعوبة دراسة الوظائف الحية وهي تعمل فليس من السهل دراسة عمل المعدة وهي تقوم بوظيفتها. 2- التي تعترض المجرب في الميدان البيولوجي تمكن في تصنيف الحوادث فرسم سلسلة الطبائع والصفات الخاصة بنوع حيواني ليس أمرا سهلا إن صعوبة التصنيف ثنائية من جهة لا بد من تعريف النوع ومن جهة أخرى لا بد من تحديد علاقاته في حالة التصنيف إما مرفولوجيا أو فيزيولوجيا محاولة تقضي على الفردية 3- هي الكائنات الحية غير قابلة لتعميم النتائج وتوسيعها على جميع أفراد النوع الواحد فعندما يستخدم العلماء الكلب من أجل التجارب حول مرض السكر التجريبي والقرد من أجل دراسة بغي الهرمونات فإن النتائج المتحصل عليها لا يمكن تعميمها على مجموع الكائنات الحية إن اختلاف أمزجة الناس يجعل نتائج التجربة تختلف باختلافهم إن تأثير نقل الدم مثلا من إنسان إلى آخر يختلف باختلاف معطي الدم وآخذه ويقول أحد البيولوجيين “لا توجد خليتان لهما نفس الخصائص فعلم الحياة هو علم الأتضمنه المتباينة” 4- تكمن في أن الكائن الحي المدروس في المخبر لا يكون حتما هو إلا في محيطه الطبيعي لكي تدرس الخلايا والأنسجة والباكتاريات وهي كلها كائنات حية في الهدمتولوجيا وفي علم التشريح الباثولوجي في علم الباكتاريا لا بد من قتلها وتثبيتها وتلوينها قبل أن توضع تحت المجهر وقتل الخلية وتخثيرها وتلوينها معناه حتما فسادها.
نحن نعرف أنه طوال مدة بعيدة جدا كان العلماء يعتبرون الشرايين موصلة الهواء لأنهم كانوا يجدونها دائما مفرغة من الهواء عند التشريح ثم إن الحيوانات والنباتات المنزلية لها أمراض تجهلها نفس الأنواع لوحشية إذن فهم حادثة بيولوجية توشك غالبا أن تشوه عندما تدرس في المخبر 5- وتتمثل في صعوبة التجريب والتشريح على الأحياء والتحليل لأنه من المستحيل فصل جزء من العضوية دون أن تتسبب في خلق اضطرابات تعم كل المجموع فيرى كوفيي بأن الفيزيولوجيا يجب أن يكون علم الملاحظة والاستنتاج التشريحي فيقول” إن سائر أجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها فهي لا تستطيع الحركة إلا بقدر ما تتحرك كلها معا والرغبة في فصل جزء من الكتلة معناها نقله إلى نظام الذوات لميتة ومعناها تبديل ماهيته تبديلا تاما” وقد صرح بونوف “ليس من الغريب إطلاقا إثبات البيولوجيا التحليلية الخالصة تقضي عمليا على موضوع دراستها” أي على وحدة عضوية ويقول كانغل “ليس أكيدا أن العضوية بعد بتر أحد أعضائها تبقى كما كانت بعينها منقوصة عضوا بل كل شيئ يدعوا إلى الاعتقاد بأنن أصبحنا أمام عضوية مختلفة يعتبر تطابقها ولو جزئيا مع العضوية الأصلية” 6- ذات طابع ديني وأخلاقي أو موقف رجال الدين من محاولة إخضاع الإنسان للتجريب فبعض الأديان تحرم التجريب على جسم الإنسان (تشريح الجثث) وبعض الاتجاهات والحركات الأخلاقية والسياسية تدعوا إلى توقيف بعض التجارب على الحيوانات رفقا بها وحفاظا عنها.
النقد: لكن هل وافق أصحاب هذا الطرح فيما ذهبوا إليه؟
رغم هذه العراقيل التي واجهت علم البيولوجيا إلا أنه حاول تذليل الصعوبات من أجل دراسة المادة الحية والتقدم العلمي في هذا الميدان دليل على ذلك وقد استطاع الباحثون البيولوجيين تجاوز العوائق والصعوبات والتغلب عليها بإيداع كثير من الأساليب والطرق والوسائل التقنية وخاصة استعمالهم أجهزة وآلات حقيقة جد متطورة كالمجاهر والأفلام والتصوير بالأشعة واستعمال مخدرة الحيوان وآلات دقيقة تستعمل للقياس مثل المحرار و E.E.G أي الجهاز الخاص بقياس التيار العصبي ونشاط التيار العصبي كذلك والمواد المستعملة في التحليلات للكشف عن طبيعة المكونات الحية
القضية : عرض الموقف الثاني الذي يرى إمكانية التطبيق في البيولوجيا حيث يرون انه يمكن تجاوز الصعوبات كما يرى كلود برنار أنه لا يمكن معرفة خصائص المادة الحية إلا بعلاقتها مع خصائص المادة الخام لأن العضويات المركبة ثلاثة أنواع من الأجسام
– الأجسام البسيطة كيميائيا
– المبادئ المباشر غير العضوية والعضوية التي تدخل كعناصر مؤلفة وجوهرية في تكوين الأجسام الحية الأولى تؤخذ من العالم الخارجي مباشرة وهي تامة التكوين كالأملاح الترابية والفوسفات أما الثانية فإنها غير مستعارة من العالم الخارجي لأنها من تكوين العضوية الحيوانية والنباتية كالسكر والنشاء والشحم – العناصر التشريحية المنظمة التي تعتبر الأجزاء الوحيدة التي تعرف النظام والحياة وهاته الفئات الثلاثة قادرة على أن تعطي عمليات فيزيائية كيميائية تحت تأثير الحرارة والضوء والكهرباء فالتفسير العلمي للظواهر الحيوية لابد أن يكون تفسيرا فيزيائيا فالنفس ترتد مثلا إلى أكسدة اليحمور وإلى تأكسدات خاصة بالخلايا فقد استطاع كلود برنار أن يقلب الحيوان ذات الدم حار إلى حيونات ذات دم بارد حتى يستعصي عناصرها الهستولوجية ورأى أنه إذا كنا لم نتمكن من اكتشاف قوانين الخام إلا بالتغلغل في الأجسام فإننا لا نستطيع الوصول إلى قوانين وخصائص المادة الحية إلا بتفكيك العضويات الحية على عكس ما يعتقد للنفوذ في داخلها بعد التشريح على الميت لا بد من التشريح بالضرورة على الحي حتى نقف على وظائف الأجزاء ولقد أحسن القدماء أمثال ابن سيناء وابن الهيثم فمالرسوا التجارب العلاجية والتشريحات على الحي من أجل أغراض علمية ولقد توصل الطب اليوم لفصل مناهج الفيزياء والكيمياء إلى تذليل صعوبات كالمحافظة على حياة بعض الأنسجة وحتى بعض الأعضاء خارج العضوية كالقلب وكالتصوير بالأشعة ولهذا فالمناهج التجريبية التي نصح بها بيكون وميل تبقى صالحة في البيولوجيا ويبدوا ذلك واضحا في المثال الذي ذكره كلود برنار حول بول الأرانب حيث توصل بالتجريب إلى أن جميع الحيوانات في حالة الصوم تتغذى باللحم يكون لآكلة الأعشاب التي يكون بولها في العادة عكرا وقلويا بول شبيه كبول آكلات اللحوم أي صاف وحامض أما الاستدلال الاستقرائي الذي قام به فهو التالي إن بول آكلة اللحوم حامض وبول الأرانب التي ألاحظها حامض فالأرنب إذن من آكلات اللحوم وقام بتجربة عكسية وأثبت النتيجة التي وصل إليها باستور عندما برهن على وجود الجراثيم في الهواء بتجاربه في النشوء العفوي اتبع المنهج البيكوني وقد بين هو نفسه مسخدما طريقة الإتفاق والتخلف في الوقوع ان لقاحه ضد الجمرة الخبيثة يحمي شياهه من هذا المرض أنه قام بعملية نقل المرض إلى 50 شاة وتطعيم 25 منها باللقاح المضاد فإن العدد الملقح كله قاوم المرض أما الباقي إي غير المطعم فلقد مات وكل التجارب حول نقل الجراثيم التي يقومون بها حاليا او حول اختيار الأدوية تجري على هذه الطريقة وطريقة التغيير النسبي تستعمل مرارا في البيولوجيا الطبية للتقدير لتحديد مقدار الدرقين باستهلاك الأكسجين أو تكوين غاز الفحم لدى الكوباي أو الغاز تحت تأثير الهرمون إن البيولوجيا الحديثة في الحقيقة تريد تقدما وازدهارا كلما زادت من تحسين طرقها التجريبية ومن احتياطاتها وكذلك تطور الأبحاث في المنهجين من أجل الحصول على نوع جديد من نوعين مختلفين ولهذا أكد هذا الطرح أن التجريب في المادة الحية ممكن بل ضرورة لابد منها.
النقد: لكن إلى أي مدى يمكن اعتبار هذا الطرح كافيا ومقنعا؟ إن طبيعة التجريب في المادة الحية بالمقارنة بالمادة الجامدة ورغم التقدم العلمي الذي عرفه الطب وعلم البيولوجيا إلا أنه لا يمكننا أن نتجاهل الصعوبات التي مازالت تعرقل تقدم هذا العلم خاصة ما يلاقيه العالم في التشريح وفي الوراثة وأكبر دليل على ذلك هو آخر قرار الرئيس الأمريكي السابق بل كلينتون توقيف التجارب ونحاول التوفيق بين الطرحين فنقول إن امكانية التجربة في البيولوجيا والترحاب بالتحليل الفيزيولوجي لا يمكننا إهمال الوحدة للعضوية وشروطها لأن ذلك معناه تجاهل العلم الحيوي ثم أن استحالة التجربة في البيولوجيا معناه وضع حد للعلم وجحد المنهاج التجريبي أي أن التجربة ممكنة في حدود معطيات وخصائص الكائنات الحية ومستحيلة مقارنة مع المادة الجامدة.
خلاصة: وصفوة القول أن المنهج التجريبي يمكن تطبيقه في المادة الحية لكن باستعمال منهج تجريبي متعدد إذن التجربة في المادة الحية ممكن لكن في حدود التطور التقني وبمراعاة خصوصيات المادة الحية.