************************************************************* خصائص شعر التفعيلة و تتطور بناء القصيدة العربية المعاصرة**
*
المصطلح والولادة : أطلق النقد مصطلح ( الشعر المعاصر) على بعض الشعر الذي أخذ يطغى منذ حوالي 1950 حيث اتصف بعدة صفات منها خروجه على الأوزان المعهودة ، والاقتصار على هذه الصفة للتفريق بين الشعر المعاصر و القديم غير كافٍ فليس الشَّكلُ سوى صورة* للمضمون الّذي أخذ في التغيير منذ بدايات هذا القرن حين ابتدأت بنية القصيدة في التجدد من الشعر الغنائي الخالص إلى الشعر الدرامي* فعرف الشعر الحديث القصة الشعرية والدراما الشعرية* في بعض أعمال خليل مطران* وأحمد شوقي ، و الأخطل الصغير ، و شعراء المدرسة الإبداعيّة فكان الخروج على الوزن فيما بعد نتيجة طبيعية للمؤثرات الاجتماعية والثقافية ولتطور بنية القصيدة العربية والشعر الحر ،* أو المنطلق هي تسميات غير دقيقة ويمكننا أن نطلق على الشعر الذي تكون ركيزته الوحيدة (شعر التفعيلة) وهي تتكرر حسب إحساسات الشاعر وهذا التمييز شكل صرف فالجديد قد يكون هنا كما يكون هناك .
وشعر التفعيلة موصول بحركات التجديد المتلاحقة منذ العصر العباسي حينما أعلن أبو العتاهية (أنا أكبر من العروض ) والنوع الآخر من التجديد هو الشعر الذي نظم بقصد الغناء وما اتسم بالليونة في القوافي والسهولة في الإيقاع واللفظ والتراكيب الرشيقة وتمثل الموشحات الأندلسية الخروج الفعلي عن نظام الشطرين والقافية الواحدة فنظموا الثنائيات والرباعيات والمخمسات وأمثالها وخاصة في القصة الشعرية ثم كانت قصيدة (النهاية) عام 1917 لنسيب عريضة الذي أثار حفيظته سكوت بني قومه على ما أصاب وطنه في الحرب العالمية الأولى :
كفِّنُوه !
ادّفنوه !
أسّكنوه !
هوّةَ اللحدِ العميقِ
واذهبُوا ، لا تندبُوه
فهوَ شعبٌ ميتٌ ليسَ يَفيق
وكان بعض الشعراء يمزج وزنا بوزن وهذا ما حدث في قصيدة المواكب 1919 لجبران وقد أجراها في اتجاهين متعاكسين الأول *من بحر البسيط والثاني من مجزوء الرمل ثم جاءت ولادة شعر التفعيلة ولادة طبيعية و لا يختلف الأمر كثيرا إذا كانت هذه الولادة قد تمت في قصيدة (الشراع) لخليل شيبون أو قصيدة ( هل كلن حبّا ) للسياب أو قصيدة **********( الكوليرا ) لنازك الملائكة قبيل منتصف القرن .
*
*
*
*
خصائص شعر التفعيلة *:
1- نظام التفعيلة يساعد في عدم الوقوع في الحشو الذي كان لا يسلم منه نظام الشطرين فكثيرا ما كان المعنى أو الإحساس ينتهي قبل الوصول إلى القافية فيضطر الشاعر إلى أن يتم الوزن بكلمة من هنا أو من هناك أو استبدال كلمة أطول بأخرى أقصر ، ولكن نظام التفعيلة منح الشاعر حرّيّة واسعة ومرونة أكبر .
2- الخصيصة الثانية أنّ التنوع في القوافي يؤدي إلى التحرر من سلطانها كما يؤدي إلى تنوع الأنغام بين ارتفاع وانخفاض وخاصة في قصيدة الموجات فكل موجة تنبثق من سابقتها وتتصل بما يتلوها وهذا يسهل الخروج من الرتوب من موسيقا الشطرين ويقرب النص الشعري من السيمفونية بالتقطيع وحرية الحركة والتنويع والاستمرار.
3- الخصيصة الثالثة الابتعاد عن النمطية في نظام الشطرين وخاصة إذا كانت القصائد متشابهة في الموضوع والوزن وحركة الروي والقافية .
4- الخصيصة الرابعة شعر التفعيلة بعيد عن لغة التقرير والخطابة ويقترب من البوح الرقيق والهمس الصافي الذي اكتشفه محمد مندور في الشعر المهجري بقوله : ( الشعر المهموس لا خطابة فيه ) ولا يعني هذا القول أنّ الشعر التفعيلة يخلو من التقرير والخطابة وأنّ شعر الشطرين يخلو من الهمس ومن أمثلة ذلك قول القروي في الشوق إلى أمّه وأخوته :
إلى أخوةٍ كفراخِ القطَا* ***وأُمٍّ على أمرَهم قائمة
إذا عبسَ الدَّهرُ في وَجْهِهَا*** تظلُّ لهم أبداً بَاسِمَة
فيا ربِّ رفقاً بتلك الفراخ ِ** وأبقِ لهم أمّهُم سَالِمَة
5- الخصيصة الخامسة : شعر التفعيلة يساعد في أن يكون الحوار رشيقاً في بنية القصيدة ويقرِّبُها من بنية العمل الدرامي *ويمنحها حركة النثر ومرونته قال أمل دنقل في قصيدته من أوراق أبي نواس :
* نائِماً كنتُ جانبه ، وسمعْتُ الحرسُ
* يوقظون أبي
* – خَارِجِيٌ أنَا ..
* – مارقٌ
* -مَنْ ؟ أنَا
*6- الخصيصة السادسة : *شعر التفعيلة يساعد في استخدام الصورة الشعرية استخداماً عضوياً وفي استخدام الرمز الموحي الناتج عن الرؤية الجديدة والتطور في نظرة الإنسان إلى الكون والعالم وتزخر بعض القصائد بالرموز وتشع بعض سطورها بالإيحاءات الكثيفة كما في قصيدة ******( المطر ) للسياب ومنها قوله :
*وفي العراق جوع
*وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
**لتشبعَ الغُربَان والجرَاد
*وتطحنُ الشَّوانَ والحجر
*رَحَىً تدورُ في الحقولَ … حَولَهَا بَشَر
*مَطَرٌ …
*مَطَرٌ …
*مَطَرْ …
*واضح أن الرموز في النص شفافة موحية … وأهمها الغربان والجراد ويرمزان إلى المستغلين كما أن المفارقات الدرامية بين الخير العميم والجوع الدائم توحي بشفافية بالمعاناة القاسية لوطن كبير ولكن الإيحاء المكثف في مفتاح القصيدة أو لأزمتها التي تتكرر بإيقاعٍ قَاسٍ حَادٍ بارز يحمل في ألفاظه صرخة الشاعر وصلواته واستسقاءه مطراً جديداً يختلفُ كلَّ الاختلافِ عن المطرِ الذي يهطل كلّ عامّ وقد كانت السماء تجود على الأرض ومع ذلك كان الإنسان دائم الجوع فهو إذا في مفارقة درامية أو في معادلة بين الخير والجوع معادلة فقدت أحد طرفيها رقما هاما وسببا مباشرا وكان الشاعر يبحث في صرخته عن هذا السبب الخفي ولذلك فإن صلاته كانت غضبا أكثر مما *فيها من الاستعطاف والرجاء .
*7- الخصيصة السابعة : شعر التفعيلة يساعد في تحقيق وحدة القصيدة والتخلص من وحدة البيت أو السطر الشعري وكانت القافية تشكل فاصلاً طبيعياً بين نهاية البيت والبيت الذي يليه وهي تقف عائقاً دون تواصل الحركة ونموها نمواً عضوياً وبنائها بناءً درامياً إذ يتصاعد الإيقاع وينخفض
*ويتنوع ليشكِّلَ سيمفونيةً دراميةً إلى أن يصل إلى القرار الأخير في القصيدة* .
*ثالثاً – بناء القصيدة المعاصرة* : قدم النقد المعاصر مصطلح ( وحدة القصيدة ) لقياس جودة *القصائد أو رداءتها والقصيدة المعاصرة بناء متكامل تتألف أجزاؤه في وحدة عضوية ، ولهذا شبهت بصورة الكائن الحيّ وتكامل أجزاؤه تكاملاً عضوياً والمهمُّ ألاّ تتعارضَ الآثارُ التي تخلِّفُهَا القصيدة في المتلقي لكنَّ هذا المصطلحَ غيرَ متوفرٍ في القصائد المعاصرة كلّها .
1- فهناك نمط يقوم على التراكم والتكرار وهو بعيد عن التلاحم العضوي الوظيفي ، وهو شبيه بكومة الرمل إذا حذفنا منها أو أضفنا قبضة لا يتغير البناء وهكذا بناء القصيدة المعاصرة .*
2- وهناك نموذج ينطوي فيه المضمون في الشكل والشكل في المضمون وهذا ما يسمى* *( بالشكل العضوي ) وتفصح القصيدة عن كلّ شيء دفعة واحدة فتتحدث عن الحبّ والموت والسياسة والثورة وتصح على ذلك كلّه وخير ممثل لهذا البناء المترابط المتكامل قصيدة ( أنشودة المطر ) للسياب فالشاعر يبدأ مخاطبة عيني أنثى قادرة على تحويل الجفاف إلى خصب والموت إلى حياة وقد تكون الأم أو الحبيبة ومنهم من ذهب على أنها الآلهة ( عشتار ) :
عيناك غابتا نخيل ساعة السّحر
أو شرفتان راحَ ينأى عنْهُمَا القَمَر
عيناك حين تبسمانِ تورقُ الكُرُوم
وتتصاعد الموجة الأولى ضمن ثنائيات : الجوع والخصب ، والجفاف والمطر ثمّ يتحدث عن تعلقه بأمُّه ثمّ ينتقل من الخاصِّ إلى العام ويتحدث عن الأوضاع الاجتماعية ثمّ يأتي بصورة* المطر الرامز إلى الثورة الشاملة : *****************************************
في كلّ قطرةٍ مِنَ المَطَرْ ***********
حَمْرَاءَ أو صَفْرَاءَ مِنْ أجنَّةِ الزّهَرْ
وكُلّ دَمعَةٍ تُرَاق مِنْ دَمِ العَبيدْ
فهيَ ابْتِسَامٌ في انتظارِ مَبْسَمٍ جَديدْ
أو حَلْمَةٍ تَوَرَّدَتْ على فَمِ الوَلِيدْ
في عالمِ الغَدِ الفتي , واهبَ الحَيَاة !
مَطَرٌ …
مَطَرٌ …
مَطَرْ …
ومثل هذه القصيدة ذاتية سياسية اجتماعية معاً ، ووحدتها كليّة وشكلها عضوي وظيفيّ . *
*