بيان عقيدة السلف الصحيحة الصافية من شوائب التشبيه والتعطيل .. | منتديات الدراسة الجزائرية

بيان عقيدة السلف الصحيحة الصافية من شوائب التشبيه والتعطيل ..

مدير الموقع

إدارة المنتدى
قال الشيخ العلامة المفسر الأصولي محمّد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى :

فصل في بيان عقيدة السلف الصحيحة الصافية من شوائب التشبيه والتعطيل .

وقد أردنا أن نوضحها هنا باختصار بأسلوب عربي خال من اصطلاح
أهل المنطق وأهل البحث والمناظرة لينفع اللّه بذلك من أراد هدايته
من خلقه : اعلم أن المعتقد الصحيح المنجي عند اللّه في آيات الصفات
هو ما كان عليه السلف الصالح رضي اللّه عنهم وهو مقتضى نصوص
القرآن العظيم .

وهو مبني على ثلاثة أسس كلها صرح اللّه بها في كتابه عن نفسه
وصرح بها رسوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة .
ولا يصف اللّه أعلم باللّه من اللّه :{ أأنتم أعلم أم اللّه ؟ }
ولا يصف اللّه بعد اللّه أعلم باللّه من رسوله صلى الله عليه وسلم
قال في حقه :{ وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى }

والأول من الأسس الثلاثة المذكورة : هو تنزيه خالق السماوات
والأرض جل وعلا من مشابهة خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم
سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا وهذا الأساس الأعظم للعقيدة الصحيحة
صرح اللّه به في قوله : { ليس كمثله شيء } وقوله : { ولم يكن له كفوا أحد }
وقوله : { هل تعلم له سمياً } وقوله : { فلا تضربوا للّه الأمثال }
ومن وفقه اللّه لفهم هذا الأساس الأعظم ونزه خالقه عن مشابهة الخلق تنزيها
تاما جازما به قلبه فإن قلبه يكون طاهرا من أقذار التشبيه وتكون عقيدته
مبنية على أساس صحيح وهو تنزيه خالق السماوات والأرض
عن مشابهة خلقه في ضوء قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } ونحوها
من الآيات فإذا استحكم هذا الأساس الأعظم في قلب المؤمن كان
استحكامه فيه سببا لتوفيقه للأساس الثاني من الأسس الثلاثة التي ذكرنا .

ونعني بالأساس الثاني المذكور تصديق اللّه فيما أثنى به على نفسه .
وتصديق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فيما أثنى على ربه والإيمان
بتلك الصفات الثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة إيمانا مبنيا
على أساس ذلك التنزيه .
فهذان أساسان عظيمان الأول تنزيه اللّه تعالى عن مشابهة خلقه
والثاني الإيمان بصفاته الثابتة في الوحي الصحيح إيمانا مبنيا على أساس
ذلك التنزيه بعيدا كل البعد عن مشابهة الخلق وكيف يخطر في ذهن المؤمن
العاقل مشابهة الخلق لخالقهم ؟ فالصنعة لا تشبه صانعها بحال وهذان
الأساسان أوضحهما اللّه في محكم كتابه إيضاحا لا يترك في الحق لبسا
ولا شبهة وذلك في قوله تعالى : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير }
لأن قوله : { وهو السميع البصير } بعد قوله : { ليس كمثله شيء }
فيه سر أعظم وتعليم أكبر في أوضح عبارة وأوجزها لا يترك
في الحق لبسا . وإيضاح ذلك أن السمع والبصر من حيث هما سمع وبصر
صفتان يتصف بهما جميع الحيوانات - ولله المثل الأعلى - فكأن اللّه يقول :
يا عبدي لا يخطر في عقلك أن سمعي وبصري يشابهان أسماع
المخلوقين وأبصارهم حتى تقول : إن هذا النص يوهم غير اللائق فتؤوله
أو تنفيه بل أثبت لي سمعي وبصري كما أثبت بهما على نفسي إثباتا مبنيا
على أساس التنزيه ولا حظ في ذلك قوله قبله : { ليس كمثله شيء }
وهذا تعليم قرآني لا يترك في الحق لبسا ولا شبهة فأول الآية الكريمة
الذي هو { ليس كمثله شيء } تنزيه تام من غير تعطيل وآخرها وهو قوله :
{ وهو السميع البصير } إيمان بالصفات من غير تشبيه ولا تمثيل فيجب
علينا أن نعتقد ما دل عليه أولها من التنزيه وما دل عليه آخرها
من إثبات الصفات والإيمان بها على أساس ذلك التنزيه فلا نتنطع بين يدي
خالقنا وننفي عنه صفة الكمال التي أثنى بها على نفسه ولا نشبه
خالقنا بخلقه بل نجمع بين التنزيه أولاً والإيمان بالصفات ثانياً حسبما
دلت عليه آية { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .

والأساس الثالث هو أن تعلم أن العقول البشرية عاجزة عن إدراك كيفية
اتصاف اللّه جل وعلا بتلك الصفات لأن قوله تعالى :
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً } صريح
في أن إحاطة علم البشر به جل وعلا منفية نفيا باتا قرآنيا .

وهذه الأسس الثلاثة التي بينا أنها هي معتقد السلف الصالح وهي
تنزيهه جل وعلا عن مشابهة خلقه والإيمان بما وصف به
نفسه إيمانا مبنيا على أساس ذلك التنزيه وكذلك ما وصفه به
رسول صلى الله عليه وسلم وقطع الطمع عن الإحاطة بالكيفية
دل عليها كلها القرآن العظيم وهو أصل الهدى ومنبع اليقين
وكلها طرق سلامة محققة لا شك فيها لأنها كلها تمسك بالقرآن العظيم
ومن تمسك به فقد تمسك بالعروة الوثقى .
ولا يؤمن أن اللّه جل وعلا يوم القيامة يسأل الجميع فيقول لهم :
ماذا كنتم تقولون ؟ فيما أثنيت به على نفسي من الصفات أو أثنى علي به
رسولي صلى الله عليه وسلم : أكنتم تنفون ؟ وتدعون أن ظاهره خبيث
غير لائق : أو كنتم تنزهونني ؟ وتصدقونني فيما أثنيت به على نفسي
أو أثنى علي به رسولي صلى الله عليه وسلم .
ولا شك أن من مات على العقيدة التي ذكرنا ولقي اللّه يوم القيامة على ذلك
أنه آمن من كل عذاب ومن كل توبيخ وتقريع يأتيه من قبل واحد من تلك
الأسس الثلاثة المذكورة في ضوء القرآن العظيم فلا يقول له اللّه
لم كنت تنزهني في دار الدنيا عن مشابهة خلقي لا واللّه لا يقول له ذلك
أبدا لأن ذلك الأساس طريق سلامة محققة كما ترى . ولا يقول له اللّه
لم كنت في دار الدنيا تصدقني فيما أثنيت به على نفسي وتصدق رسولي
فيما أثنى به علي وتؤمن بتلك الصفات إيمانا مبنيا على أساس التنزيه
لا واللّه لا يقول له ذلك لأن هذا الأساس الثاني طريق سلامة محققة
ولا يقول له اللّه لم كنت في دار الدنيا تقول إن البشر لا يحيطون بي
علما فهذه الأسس الثلاثة التي هي مذهب السلف كلها طريق سلامة
محققة وأدلتها ساطعة أنوارها من كتاب اللّه جل وعلا .

تنبيهان :

التنبيه الأول :
اعلم انه إن قال معطل متنطع نحن لا نعقل كيفية استواء مثلا منزهة
عن مشابهة كيفية استواء الخلق فبينوا لنا كيفية معقولة منزهة
عن مشابهة كيفيات استواء الخلق لنعتقدها لأنا لم تدرك عقولنا كيفية
استواء منزهة عن ذلك فالجواب من وجهين :

الوجه الأول :
أن يقال هل عرفت كيفية الذات الكريمة المقدسة المتصفة بتلك الصفات
فلابد أن يقول لا فإن قال لا قلنا له معرفة كيفية الاتصاف بالصفات
متوقفة على معرفة كيفية الذات لأن الصفات تختلف باختلاف
موصوفاتها فكل صفة بحسب موصوفها ألا ترى ولله المثل الأعلى
أن لفظة رأس مثلا إذا أضفتها إلى الإنسان فقلت رأس الإنسان ، وأضفتها
إلى الوادي فقلت رأس الوادي ، وأضفتها إلى الجبل فقلت رأس الجبل ،
وأضفتها إلى المال فقلت رأس المال أن لفظة الرأس لفظة واحدة وأنها
اختلفت حقائقها اختلافا عظيما بحسب اختلاف إضافاتها وهذا في اختلاف
الإضافات إلى مخلوقات حقيرة فما بالك بالاختلاف الواقع بين ما أضيف
إلى الخالق وما أضيف إلى خلقه فالفرق بين ذلك كالفرق بين ذات الخالق
وذوات المخلوقين .

الوجه الثاني :
هو أن تقول هل عرفت كيفية منزهة عن مشابهة الخلق في السمع والبصر
مثلا فلابد أن يقولوا أيضا لا . ولكنا نعلم أن سمع اللّه وبصره منزهان
عن مشابهة أسماع الخلق وأبصارهم فإن قالوا ذلك قلنا ونحن نقول
مثل ذلك في الاستواء وسائر الصفات الثابتة بالوحي الصحيح .

التنبيه الثاني :
اعلم أنه إن قال معطل متنطع أن القرآن العظيم نزل بلغة العرب والاستواء
في لغتهم هو هذا الذي نشاهده في استواء المخلوقين فإثباته للّه يستلزم التشبيه
بالخلق بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن .
فالجواب من وجهين أيضا :

الوجه الأول :
أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم يعلمون كل العلم من معاني لغتهم
أن بين الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق والمحيي والمحيَى والمميت
والمُمات إلى آخره فوارق عظيمة هائلة مستلزمة للاختلاف التام
بين صفات الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق . وأن أصل اللغة يقتضي
أن تكون صفة كل منهما مناسبة لحاله فعظمة صفة الخالق كعظمة ذاته
وانحطاط صفة المخلوق عنها كانحطاط ذاته عن عظمة ذاته
وما كان يلتبس ذلك على عوام المسلمين في زمنه صلى الله عليه وسلم
فما كان يخطر في عقولهم مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه بل يعلمون
أن صفة الخالق لائقة به وصفة المخلوق لائقة به والفرق بينهما كالفرق
بين الذات والذات .

الوجه الثاني :
أن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لا يعرفون للسمع والبصر مثلا كيفية
إلا هذا المعنى المشاهد في المخلوقين بالحاسة التي هي جارحة فيلزم
قولكم أن يكون إثبات السمع والبصر ونحوهما من الصفات
يستلزم التشبيه بحسب الوضع العربي الذي نزل به القرآن فإن قالوا لا يلزم
من كون الوضع العربي يراد فيه بمعنى السمع والبصر ما هو مشاهد
في المخلوقات أن يكون سمع اللّه وبصره مشابهين لأسماع الخلق
وأبصارهم لتنزيه صفاته عن مشابهة صفاتهم قلنا وكذلك نقول في الاستواء
ونحوه ولا وجه البتة للفرق بين السمع والبصر وبين الاستواء والمشاهد
من الجميع في المخلوقات لا يليق باللّه جل وعلا والذي اتصف اللّه
به من الجميع منزه عن مشابهة صفات الخلق كتنزيه سائر صفاته وذاته
عن مشابهة صفات الخلق وذواتهم ولا يخفى أنه جل وعلا وصف نفسه
بالقدرة فقال : { إن اللّه على شيء قدير } ووصف بعض المخلوقين
بالقدرة فقال : { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } .
ووصف نفسه بالسمع والبصر فقال : { إن اللّه سميع بصير }
ووصف بعض المخلوقين بالسمع والبصر في قوله :
{ إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً }
ووصف نفسه بالحياة فقال : { اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم } الآية
{ وتوكل على الحي الذي لا يموت } ووصف بعض خلقه بالحياة فقال :
{ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي }
{ وجعلنا من الماء كل شيء حي } .
{ وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا } .
وأمثال هذا كثيرة جدا في القرآن كما أوضحناه في غير هذا الموضع ووصف
نفسه بالاستواء على العرش في سبع آيات من كتابه ووصف بعض
خلقه بالاستواء أيضا كقوله : { لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة
ربكم إذا استويتم عليه } وكقوله : { فإذا استويت أنت ومن معك
على الفلك } الآية وقوله : { واستوت على الجودي } .
فاستواؤه وقدرته وسمعه وبصره وحياته وسائر صفاته منزهة
عن مشابهة صفات المخلوقين . واستواء المخلوقين وسمعهم
وبصرهم وقدرتهم وإرادتهم كل ذلك مناسب لحالهم وبين صفاته
تعالى وصفاتهم في الجميع كالفرق بين ذاته وذواتهم .
فافهم ما ذكرنا وتمسك بنور الوحي الذي أوضحنا فالسلامة محققة
في اتباع الوحي وليست محققة في شيء غيره ولم يضمن اللّه لإنسان
أن يكون غير ضال في الدنيا ولا شقي في الآخرة إلا متبع هداه الذي
هو القرآن كما في قوله تعالى :
{ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى } .

*********

(( خاتمة في المقارنة بين مذهب السلف
وما يسمونه مذهب الخلف ))

قد علمت مما ذكرنا أن مذهب السلف مبني على ثلاثة أسس :
الأول منها : تنزيه اللّه جل وعلا عن مشابهة خلقه في ذواتهم
أو صفاتهم أو أفعالهم .
والثاني : الإيمان بما ثبت في الوحي الصحيح من صفات اللّه على أساس
ذلك التنزيه .
الثالث : العجز عن الإحاطة لقوله : { ولا يحيطون به علماً } فالسلفي إذا سمع قوله
تعالى : { ثم استوى على العرش } امتلأ قلبه من الإجلال والإعظام والتقديس والتنزيه
لتلك الصفة التي أثنى اللّه بها على نفسه وهي أنه استوى على عرشه فيجزم قلبه جزما
باتا بأن ذلك الاستواء الذي مدح اللّه به نفسه الكريمة المقدسة بالغ من غايات الكمال
والجلال والتنزيه ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين سبحانه
وتعالى عن ذلك علوا كبيرا فيكون معتقد المضمون قوله : { ليس كمثله شيء }
وقوله : { ولم يكن له كفواً أحد } إلى غير ذلك من الآيات وبهذا التنزيه الكريم يتيسر له
الإيمان بما وصف اللّه به نفسه من صفة الاستواء لأنه إذا حمل الاستواء على ذلك
المعنى اللائق المنزه عن مشابهة استواء المخلوقين سهل عليه الإيمان به وتصديق اللّه
في ثنائه به على نفسه على نحو : { ليس كمثله شيء و هو السميع البصير }
فالسلفي منزه أولاً ومؤمن بالصفات ومثبت لها على أساس التنزيه ثانياً عالم بعجزه
عن إدراك كيفية الاتصاف لأن إحاطة العلم البشري باللّه منفية نفيا باتا قرآنيا كما تقدم
إيضاحه فهو بتنزيهه طاهر القلب من أقذار التشبيه وبإيمانه بالصفات على أساس
التنزيه طاهر القلب من أقذار التعطيل فمذهبه طريق سلامة محققة لا لبس فيها
ولا شك في كونها حقا لأن كل مذهبه تمسك بنصوص القرآن العظيم .

أما ما يسمونه مذهب الخلف فهو مستلزم ثلاث بلايا كل واحدة منها أكبر من أختها
استلزاما لا ينفك :

والأولى من البلايا الثلاث : أنه إذا سمع قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } قال
إن ظاهر هذا الاستواء الذي مدح اللّه به نفسه في سبع آيات من كتابه هو مشابهة
استواء المخلوقين وهذه بلية عظمى لان صاحبها يتهجم على نصوص القرآن العظيم
ويفتري عليها أن ظاهرها المتبادر منها هو مشابهة استواء الخلق وكل كلام كان ظاهره
المتبادر منه مشابهة الخالق للخلق فهو كلام ظاهره قذر نجس لأنه ليس كلام أقذر
ولا أنجس ظاهرا من كلام ظاهره تشبيه الخالق بالخلق سبحانه وتعالى عن ذلك علوا
كبيرا فكأنهم يقولون للّه : هذا الذي مدحت به نفسك ظاهره المتبادر منه الذم والتنقيص
لأنه لا ذم ولا تنقيص أعظم من دعوى مشابهة صفة الخالق لصفة خلقه والنبي
صلى الله عليه وسلم الذي قيل له : { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم }
لم يقل حرفا واحدا من ذلك ولم يبين شيئا مما زعموه مع أنه صلوات اللّه وسلامه عليه
لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة ولاسيما فيما صفات اللّه ولا سيما
في ظاهره المتبادر منه الكفر باللّه بتشبيهه بخلقه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .
فالافتراء على اللّه بأنه أثنى على نفسه بما ظاهره المتبادر منه التشبيه بالخلق والافتراء
على نصوص القرآن بأن ظاهرها المتبادر منها التشبيه هو البلية الأولى من بلايا
مذهب الخلف ، حاشا للّه جل وعلا وحاشا نصوص كتابه مما افتروه .

والبلية الثانية من البلايا الثلاث اللازمة لمذهب الخلف : هي أنهم لما قرروا أن ظاهر
صفة الاستواء مثلا المتبادر منها مشابهة الخلق قالوا إنها يجب نفيها بالكلية لأجل
الصرف عن هذا الظاهر الخبيث في زعمهم ومن تنطع بين يدي اللّه فنفى عنه صفته
التي أثنى بها على نفسه في سبع آيات من كتابه فهو أجرؤ من خاص الأسد بأضعاف
ولا شك أنه واقع في بلية عظمى لأن التجرؤ على اللّه ونفي ما مدح به نفسه بادعاء
أنه غير لائق أو ليس بالهين كما ترى فافتروا على الصفة أولاً أن ظاهرها غير لائق
فصاروا مشبهين صفة الخالق الواردة في الوحي بصفة مخلوق شر تشبيه وبسبب ذلك
التشبيه المفترى فواصفه الاستواء من أصلها من غير اعتماد على كتاب ولا سنة ونفيهم
للاستواء الذي أثنى اللّه به على نفسه في سبع آيات من كتابه هو البلية الثانية اللازمة
للمذهب الخلفي ولا شك أن التجرؤ على نفي ما مدح اللّه به نفسه مدحا متكررا
في القرآن العظيم أنه بلية عظمى وجناية كبرى .

والبلية الثالثة من البلايا اللازمة لمذهب الخلف : هي أنهم لما ادعوا على صفة
الاستواء أن ظاهرها غير لائق ثم نفوها من أصلها بسبب ذلك زعموا أن معنى
{ استوى على العرش } استولى عليه فجاءوا بالاستيلاء من تلقاء أنفسهم ونفوا الاستواء
الثابت في القرآن وضربوا لذلك مثلا بقول الراجز :
قد استوى بشر على العراق ……من غير سيف ودم مهراق
فقالوا قد استوى بشر على العراق معناه قد استولى عليه وإذا فمعنى ثم استوى
على العرش ثم استولى عليه .
ونحن نقول في هذا : أيها المستدل ببيت الرجز هذا على أن الاستواء معناه الاستيلاء ،
ألم تخش اللّه ، ألم تستحي من خالق السموات والأرض جل وعلا استحياء يمنعك
من أن تشبه استيلاءه على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر على العراق وهل يعقل
في الدنيا تشبيه أشنع من تشبيه استيلاء اللّه على عرشه باستيلاء بشر بن مروان
على العراق .
فاعلم أيها الخلفي أن هذا التشبيه الذي جئت به في الاستيلاء الذي زعمت والبيت
الذي استدللت به إنك به أنت أعظم المشبهين نصيبا في التشبيه لصفات الخالق بصفات
خلقه وبأي دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو عقل سوغت لنفسك أن تشبه استيلاء اللّه
على عرشه الذي زعمت باستيلاء بشر بن مروان على العراق .
ثم اعلم أيها الخلفي أن الاستيلاء الذي جئت به من تلقاء نفسك من غير اعتماد
على وحي سماوي أنه أشد الصفات توغلا في التشبيه لأن فيه تشبيهه تعالى
في استيلائه على عرشه بكل مخلوق قهر مخلوقا فغلبه واستولى عليه وهذا يستلزم
من أنواع التشبيه بحورا لا سواحل لها ولا شك أنك ستضطر أيها الخلفي إلى أن تقول
هذا الاستيلاء الذي فسرت به استواء منزه عن مشابهة استيلاء المخلوقين .
ونحن نسألك ونطلب منك الجواب بالحق الخالي من التعصبات التي تعمي العقلاء
وتصمهم أيهما أحق بالتنزيه عن مشابهة صفات الخلق الاستواء الذي أثنى اللّه به
على نفسه في سبع آيات من كتابه وأنزل به الروح الأمين على سيد الخلق صلى الله
عليه وسلم قرآنا يتلى متعبدا بلفظه كل حرف منه عشر حسنات لقارئه ويقرأ به
في الصلاة ومن أنكر أنه من القرآن كفر بإجماع المسلمين ، أم الأحق بالتنزيه
عن مشابهة صفات المخلوقين هو الاستيلاء الذي جئتم به من تلقاء أنفسكم من غير
أن يدل عليه كتاب ولا سنة البتة بوجه من الوجوه والظاهر أنك ستضطر إلى أن تقول
إن كلام رب العالمين أحق بالتنزيه من كلام جاء به ناس من تلقاء أنفسهم من غير
استناد إلى دليل من نقل ولا عقل إلا إذا كنت مكابرا والمكابر لا داعي للكلام معه .
وهذا الذي ذكرنا في الاستواء جار في جميع الصفات الثابتة في الكتاب والسنة
كما قدمنا أن إيضاح مثال واحد منها كاف في إيضاح الجميع .
{ قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها
وما أنا عليكم بحفيظ }

وفي الختام نوصي أنفسنا وإخواننا المسلمين بتقوى اللّه تعالى وعدم التهجم على اللّه
تعالى وعلى كتابه بالدعاوى الباطلة والتمسك بنور الوحي الصحيح في المعتقد وغيره
لأن السلامة متحققة في اتباع الوحي وليست متحققة في شيء غيره :
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى ……ولكنها الأهواء عمت فأعمت
وبهذا الذي ذكرنا تعلم أن مذهب السلف أسلم وأحكم وأعلم وقولهم مذهب السلف أسلم
إقرار منهم بذلك لأن لفظ أسلم صيغة تفضيل من السلامة وما كان يفضل غيره ويفوقه
في السلامة فهو أحكم منه وأعلم .
وبه يظهر أن قولهم ومذهب الخلف أحكم وأعلم ليس بصحيح .
بل الأحكم الأعلم هو الأسلم كما لا يخفى .
وهنا انتهى ما أردنا تلخيصه وجمعه والحمد للّه رب العالمين .

وكان الفراغ منه في اليوم الرابع عشر من جمادى الأولى من سنة 1388هـ
بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ونرجو اللّه جل وعلا أن يرزقنا الإخلاص
في جميع أعمالنا ويجيرنا من فساد القصد في الأعمال إنه سميع مجيب قريب
وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .

.. من كتاب آداب البحث و المناظرة ..
 
عودة
أعلى