بسم الله الرحمن الرحيم
الإيمان إذا ما تمكن في القلب آثار على صاحبه، فليس الإيمان بالأمر الهين في حياة الإنسان، بل هو انقلاب في كيان الإنسان يجعله لا يسير في هذه الحياة إلا وفق ما يمليه عليه هذا الإيمان وما يقتضيه، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون إيمان، الإنسان بلا إيمان بالغيبيات العظمى وبلا تمكن للإسلام في قلبه يصير كالوحش الأعجم لا تهمه إلا مصلحته، والمجتمع بلا إيمان غابة يأكل فيها القوي الضعيف وتضيع فيها الحقوق، فالإيمان هو صمام الأمان لأي مجتمع ورابطة قوية تجمع أفراده، الإيمان يجعل المؤمن يؤدي ما عليه لا خوفا من قانون أو عقاب دنيوي، بل لأنه يعلم أن الله يراه وأنه سيجازيه إن أحسن أو أساء، وآثار الإيمان عظيمة كثيرة نذكر بعضا منها.
من أهم آثار الإيمان ثقة المؤمن بما عنده ثقة كاملة ليس محتاجا معها إلى إعادة نظر أو تغيير مواقف، يقول سبحانه موجها الخطاب لنبيه : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [الأنعام:57]، هكذا بكل وضوح: إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي، هذا هو الإيمان، أن يكون المؤمن على بينة من ربه، فإذا كان على بينة فإن إيمانه يكون كالجبل الراسي الضارب بجذوره في الأرض، لا يضطرب اليقين عنده ولا تختل الموازين، وهذا ما كان من سيد المرسلين في ثباته على الإيمان، حتى عندما أرادت قريش أن تغريه وأن تستميله وأن تحيد به عن إيمانه بعرض المغريات التي يسيل لها لعاب أي بشر أبى؛ لأنها البينة من الله، ولأنه الإيمان ملأ القلب ولم يترك فيه مساحة لمتاع الدنيا الزائل فرد، عليهم وعلى عرضهم بكلمات من كتاب الله تجبه باطلهم وتدمغه فإذا هو زاهق، تلا على عتبة بن ربيعة الذي أرسلته قريش ليعرض على رسول الله جميع المغريات من منصب ومال ونساء على أن يترك دعوته، تلا عليه بداية سورة فصلت: { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ حتى بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:1- 13]، فزلزلت هذه الآيات وهذا النذير كيان عتبة، فما كان منه إلا أن وضع يده على فم رسول الله ، وقال: ناشدتك الله والرحم أن تكف، ورجع إلى قومه بغير الوجه الذي جاء به. فالمؤمن ـ أيها المسلمون ـ لا خيار عنده في إيمانه بربه وبدينه وبنبيه، وليست هذه الأصول العظيمة محل نقاش عنده.
ومن آثار الإيمان أنه يغير النفوس التي يصعب تغييرها، فبينما الإنسان في غي وجهل وشرك إذا بنور اليقين وقوة الحجة وتوفيق رب العالمين تغمر العقل والنفس، وإذا ببشاشة الإيمان تخالط شغاف القلب، فيتغير القلب غير الذي كان، ويعود الإنسان سويا على الفطرة كما كان، وهذا ما سرده علينا القرآن من حال سحرة فرعون، فبينما هم سحرة ينصرون الباطل ويدورون في فلكه وينافحون من أجل إعلاء كلمته إذا هم مؤمنون صادقون يبذلون الأنفس دون عقيدتهم وإيمانهم، ويسجدون لرب العالمين لما رأوا الحجة البينة بعد أن كان سجودهم لفرعون، يقول سبحانه: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:70-73].
ومن آثار الإيمان البعد عن المعاصي وقياس الشهوات وعاقبتها بميزان الآخرة لا بميزان الدنيا، فالمتذبذب إذا قابلته إحدى الشهوات وتوفرت لها الأسباب غابت رقابة الله في قلبه وخارت قواه وأقبل على الشهوة وورد ماءها ونهل منها، وبعد اقتراف المعصية يصحو ويدرك ما فعل، أما المؤمن الحق فإنه يقابل الشهوة بقوله: { مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]، يقابلها بقوله: { إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]. المؤمن يتصور حسرة المعاصي وأثرها قبل أن يقع فيها فيبتعد عنها وينجو بجلده ليسلم له دينه وتصفو نفسه، { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس:7-10].
هذا هو المؤمن الحق يسعى في الطاعة ويخاف المعصية ويراقب نفسه في كل صغيرة وكبيرة، وتؤرقه الذنوب إذا قارفها أو اقترب منها، يرى المعصية عظيمة مهما صغرت، وهذا من أهم ما يميز به المؤمن عن غيره، ومن أهم ما يساعده على بلوغ مرضاة الله، فالمؤمن يرى ذنبه كجبل فوقه يخشى أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده. يقول أنس بن مالك كما عند البخاري وأحمد: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي من الموبقات.
ومن آثار الإيمان الثقة بموعود الله سبحانه والثقة بنصره وتأييده، حتى يرى المؤمن المحنة منحة والكربة قربة، فلا تزيده الشدائد إلا ثقة بالرب عز وجل، وأعظم من علم الناس هذا الدرس وهذه المفاهيم الإيمانية العظيمة سيد الرسل نبينا محمد ، يقول الله تعالى عن نبيه عندما كان في الغار مع رفيقه الصديق والمشركون على باب الغار، يقول سبحانه: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فكيف يحزن من يعلم أن الله معه يكلؤه ويحميه ويحفظه؟! أخرج الترمذي عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
هذا ما يفعل الإيمان بأهله، وهكذا يكونون إذا اشتد الأمر وادلهم الخطب، بل إنه كان إذا تحسس الخطر لم يهرع إلا إلى الله، وقال واثقا: ((حسبنا الله ونعم الوكيل))، عن ابن عباس قال: (حسبنا اللَّه ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا اللَّه ونعم الوكيل) رواه البخاري.
ومن آثار الإيمان أن المؤمن لا يأمن على نفسه ولا يطمئن ما دام في هذه الدنيا مهما بلغ من صلاح وتقوى، ليس هذا وحسب بل إن المؤمن الحق يخاف على نفسه النفاق ويحذر من أن يكون عمله مناقضا لقوله، يقول إبراهيم التيمي كما عند البخاري: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا"، ويقول ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل" أخرجه البخاري. فانظروا كيف هو خوف المؤمنين.
ومن آثار الإيمان أن يكون المؤمن ذا نفس شفافة شفيقة وقلب رقيق أسيف، يتأثر بذكر الله، فيخشع قلبه، وتسيل دمعته، ولا يكون قاسيا جلفا، يقول سبحانه: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، هذا هو حال المؤمنين مع آيات الله، وهذا هو مسلكهم، وهذه الحال تنعكس حتى على علاقتهم بإخوانهم المسلمين؛ فتجد المؤمن يألم لمصاب إخوانه، ويحزن لحزنهم، ويمد لهم يد المساعدة، ويكون كريما معهم، يقول كما عند الطبراني من حديث ابن عباس: ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)).
ومن آثار الإيمان ثبات المؤمن في السراء والضراء، ثباته أمام فتن الخير والشر، فإذا أصابه شر صبر، وإذا أصابه خير شكر، أما من يعبد الله على حرف فسرعان ما تزلزله الفتن وتعصف به، يقول سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، هذا حال من يعبد الله على غير إيمان ثابت وعقيدة راسخة، أما المؤمن فهو في الحالين راض ساكن مطمئن لأمر الله، عالم أنه لن يعدم الأجر في الضراء والسراء، يقول : ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) أخرجه مسلم عن صهيب.
هذه آثار من آثار الإيمان يتخلق بها المؤمنون الذين قال الله فيهم: { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
مثلما أن للإيمان آثارا تظهر على المؤمن أو يسعى المسلم لتحقيقها والتحلي بها فإن له ثمارا يحصل عليها المؤمن في الدنيا والآخرة.
من ثمرات الإيمان الحياة الطيبة في هذه الدنيا، يقول سبحانه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، كما وعد الله المؤمنين بالأمن والاستخلاف في الأرض، يقول سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
ومن ثمرات الإيمان عدم الخسران، فالمؤمن لا يخسر بإذن الله، وهذا أمر أقسم عليه رب العالمين فقال: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
ومن ثمرات الإيمان أن الله سبحانه يطهر المؤمن من ذنوبه في هذه الدنيا بما يبتليه به من مرض ووصب، يقول في الحديث المتفق عليه: ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه))، ويقول أيضا: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.
ومن ثمرات الإيمان تثبيت الملائكة للمؤمنين عند موتهم وتبشيرهم بما أعده الله لهم من فضل وكرامة، يقول سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت:30-32].
ومن ثمرات الإيمان الأمن يوم القيامة ودخول الجنة، فما من مسلم مؤمن صفا إيمانه من شوائب الشرك والجاهلية إلا أمنه الله يوم القيامة وأدخله جنة النعيم، يقول سبحانه: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ويقول سبحانه: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124].
هذه بعض الآثار والثمار الإيمانية، فاتقوا الله وكونوا مع المؤمنين حتى تنالوا كرامة الإيمان وجائزته، واعلموا أن الله يحب المؤمنين، بل ويغار عليهم سبحانه، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الله تعالى يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) متفق عليه.
الشيخ: عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
الإيمان إذا ما تمكن في القلب آثار على صاحبه، فليس الإيمان بالأمر الهين في حياة الإنسان، بل هو انقلاب في كيان الإنسان يجعله لا يسير في هذه الحياة إلا وفق ما يمليه عليه هذا الإيمان وما يقتضيه، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون إيمان، الإنسان بلا إيمان بالغيبيات العظمى وبلا تمكن للإسلام في قلبه يصير كالوحش الأعجم لا تهمه إلا مصلحته، والمجتمع بلا إيمان غابة يأكل فيها القوي الضعيف وتضيع فيها الحقوق، فالإيمان هو صمام الأمان لأي مجتمع ورابطة قوية تجمع أفراده، الإيمان يجعل المؤمن يؤدي ما عليه لا خوفا من قانون أو عقاب دنيوي، بل لأنه يعلم أن الله يراه وأنه سيجازيه إن أحسن أو أساء، وآثار الإيمان عظيمة كثيرة نذكر بعضا منها.
من أهم آثار الإيمان ثقة المؤمن بما عنده ثقة كاملة ليس محتاجا معها إلى إعادة نظر أو تغيير مواقف، يقول سبحانه موجها الخطاب لنبيه : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } [الأنعام:57]، هكذا بكل وضوح: إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي، هذا هو الإيمان، أن يكون المؤمن على بينة من ربه، فإذا كان على بينة فإن إيمانه يكون كالجبل الراسي الضارب بجذوره في الأرض، لا يضطرب اليقين عنده ولا تختل الموازين، وهذا ما كان من سيد المرسلين في ثباته على الإيمان، حتى عندما أرادت قريش أن تغريه وأن تستميله وأن تحيد به عن إيمانه بعرض المغريات التي يسيل لها لعاب أي بشر أبى؛ لأنها البينة من الله، ولأنه الإيمان ملأ القلب ولم يترك فيه مساحة لمتاع الدنيا الزائل فرد، عليهم وعلى عرضهم بكلمات من كتاب الله تجبه باطلهم وتدمغه فإذا هو زاهق، تلا على عتبة بن ربيعة الذي أرسلته قريش ليعرض على رسول الله جميع المغريات من منصب ومال ونساء على أن يترك دعوته، تلا عليه بداية سورة فصلت: { حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ حتى بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:1- 13]، فزلزلت هذه الآيات وهذا النذير كيان عتبة، فما كان منه إلا أن وضع يده على فم رسول الله ، وقال: ناشدتك الله والرحم أن تكف، ورجع إلى قومه بغير الوجه الذي جاء به. فالمؤمن ـ أيها المسلمون ـ لا خيار عنده في إيمانه بربه وبدينه وبنبيه، وليست هذه الأصول العظيمة محل نقاش عنده.
ومن آثار الإيمان أنه يغير النفوس التي يصعب تغييرها، فبينما الإنسان في غي وجهل وشرك إذا بنور اليقين وقوة الحجة وتوفيق رب العالمين تغمر العقل والنفس، وإذا ببشاشة الإيمان تخالط شغاف القلب، فيتغير القلب غير الذي كان، ويعود الإنسان سويا على الفطرة كما كان، وهذا ما سرده علينا القرآن من حال سحرة فرعون، فبينما هم سحرة ينصرون الباطل ويدورون في فلكه وينافحون من أجل إعلاء كلمته إذا هم مؤمنون صادقون يبذلون الأنفس دون عقيدتهم وإيمانهم، ويسجدون لرب العالمين لما رأوا الحجة البينة بعد أن كان سجودهم لفرعون، يقول سبحانه: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:70-73].
ومن آثار الإيمان البعد عن المعاصي وقياس الشهوات وعاقبتها بميزان الآخرة لا بميزان الدنيا، فالمتذبذب إذا قابلته إحدى الشهوات وتوفرت لها الأسباب غابت رقابة الله في قلبه وخارت قواه وأقبل على الشهوة وورد ماءها ونهل منها، وبعد اقتراف المعصية يصحو ويدرك ما فعل، أما المؤمن الحق فإنه يقابل الشهوة بقوله: { مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23]، يقابلها بقوله: { إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15]. المؤمن يتصور حسرة المعاصي وأثرها قبل أن يقع فيها فيبتعد عنها وينجو بجلده ليسلم له دينه وتصفو نفسه، { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [الشمس:7-10].
هذا هو المؤمن الحق يسعى في الطاعة ويخاف المعصية ويراقب نفسه في كل صغيرة وكبيرة، وتؤرقه الذنوب إذا قارفها أو اقترب منها، يرى المعصية عظيمة مهما صغرت، وهذا من أهم ما يميز به المؤمن عن غيره، ومن أهم ما يساعده على بلوغ مرضاة الله، فالمؤمن يرى ذنبه كجبل فوقه يخشى أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده. يقول أنس بن مالك كما عند البخاري وأحمد: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي من الموبقات.
ومن آثار الإيمان الثقة بموعود الله سبحانه والثقة بنصره وتأييده، حتى يرى المؤمن المحنة منحة والكربة قربة، فلا تزيده الشدائد إلا ثقة بالرب عز وجل، وأعظم من علم الناس هذا الدرس وهذه المفاهيم الإيمانية العظيمة سيد الرسل نبينا محمد ، يقول الله تعالى عن نبيه عندما كان في الغار مع رفيقه الصديق والمشركون على باب الغار، يقول سبحانه: { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة:40]، فكيف يحزن من يعلم أن الله معه يكلؤه ويحميه ويحفظه؟! أخرج الترمذي عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
هذا ما يفعل الإيمان بأهله، وهكذا يكونون إذا اشتد الأمر وادلهم الخطب، بل إنه كان إذا تحسس الخطر لم يهرع إلا إلى الله، وقال واثقا: ((حسبنا الله ونعم الوكيل))، عن ابن عباس قال: (حسبنا اللَّه ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا اللَّه ونعم الوكيل) رواه البخاري.
ومن آثار الإيمان أن المؤمن لا يأمن على نفسه ولا يطمئن ما دام في هذه الدنيا مهما بلغ من صلاح وتقوى، ليس هذا وحسب بل إن المؤمن الحق يخاف على نفسه النفاق ويحذر من أن يكون عمله مناقضا لقوله، يقول إبراهيم التيمي كما عند البخاري: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا"، ويقول ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل" أخرجه البخاري. فانظروا كيف هو خوف المؤمنين.
ومن آثار الإيمان أن يكون المؤمن ذا نفس شفافة شفيقة وقلب رقيق أسيف، يتأثر بذكر الله، فيخشع قلبه، وتسيل دمعته، ولا يكون قاسيا جلفا، يقول سبحانه: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، هذا هو حال المؤمنين مع آيات الله، وهذا هو مسلكهم، وهذه الحال تنعكس حتى على علاقتهم بإخوانهم المسلمين؛ فتجد المؤمن يألم لمصاب إخوانه، ويحزن لحزنهم، ويمد لهم يد المساعدة، ويكون كريما معهم، يقول كما عند الطبراني من حديث ابن عباس: ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)).
ومن آثار الإيمان ثبات المؤمن في السراء والضراء، ثباته أمام فتن الخير والشر، فإذا أصابه شر صبر، وإذا أصابه خير شكر، أما من يعبد الله على حرف فسرعان ما تزلزله الفتن وتعصف به، يقول سبحانه: { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11]، هذا حال من يعبد الله على غير إيمان ثابت وعقيدة راسخة، أما المؤمن فهو في الحالين راض ساكن مطمئن لأمر الله، عالم أنه لن يعدم الأجر في الضراء والسراء، يقول : ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) أخرجه مسلم عن صهيب.
هذه آثار من آثار الإيمان يتخلق بها المؤمنون الذين قال الله فيهم: { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:72].
مثلما أن للإيمان آثارا تظهر على المؤمن أو يسعى المسلم لتحقيقها والتحلي بها فإن له ثمارا يحصل عليها المؤمن في الدنيا والآخرة.
من ثمرات الإيمان الحياة الطيبة في هذه الدنيا، يقول سبحانه: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:97]، كما وعد الله المؤمنين بالأمن والاستخلاف في الأرض، يقول سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
ومن ثمرات الإيمان عدم الخسران، فالمؤمن لا يخسر بإذن الله، وهذا أمر أقسم عليه رب العالمين فقال: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].
ومن ثمرات الإيمان أن الله سبحانه يطهر المؤمن من ذنوبه في هذه الدنيا بما يبتليه به من مرض ووصب، يقول في الحديث المتفق عليه: ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه))، ويقول أيضا: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.
ومن ثمرات الإيمان تثبيت الملائكة للمؤمنين عند موتهم وتبشيرهم بما أعده الله لهم من فضل وكرامة، يقول سبحانه: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ} [فصلت:30-32].
ومن ثمرات الإيمان الأمن يوم القيامة ودخول الجنة، فما من مسلم مؤمن صفا إيمانه من شوائب الشرك والجاهلية إلا أمنه الله يوم القيامة وأدخله جنة النعيم، يقول سبحانه: { الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام:82]، ويقول سبحانه: { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124].
هذه بعض الآثار والثمار الإيمانية، فاتقوا الله وكونوا مع المؤمنين حتى تنالوا كرامة الإيمان وجائزته، واعلموا أن الله يحب المؤمنين، بل ويغار عليهم سبحانه، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الله تعالى يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) متفق عليه.
الشيخ: عبد العزيز بن الطاهر بن غيث