الأستاذ علي 12
مشرف عام
الحرية والمسؤولية
القضية المطروحة للبحث تتعلق بالحرية والمسؤولية، وهي قضية مركبة لا يمكن تجزئتها، بمعنى انه لا
يمكننا طرح قضية الحرية بمفردها بمعزل عن المسؤولية، وكذلك العكس صحيح، فالمسؤولية مشروطة
بالحرية ولا معنى لها في غيابها،أي أنها تثبت بثبوت شرطها وترفع برفعه، وكذلك الحرية تستوجب قيام
المسؤولية.إنهما إذن متلازمان في الوجود ولئيمكن الفصل بينهما. أن المشكلة في الحقيقة مزدوجة تدعونا
تارة إلى الانطلاق من الحرية كشرط لتأسيس المسؤولية وتارة أخرى إلى اعتبار هذه المسؤولية شرطا
يبرر ويستوجب وجود الحرية.
صياغة المشكلة
أيهما يعتبر المبدأ الحرية أم المسؤولية؟ أو بصيغة أخرى أيهما يعتبر شرطا للآخر أم مشروطا به؟
الجزء الأول(( الحرية مبدأ وشرط للمسؤولية)).
طرح يقول بان الحرية هي المبدأ وهي الشرط، وان الحديث عن المسؤولية لا يستقيم إلا بوجود الحرية،
ويترتب عن هذا الطرح انه يجب البحث أولا في الحرية والنتائج التي يخلص إليها البحث هي التي تحدد
ثبوت المسؤولية أو عدم ثبوتها، يمثل هذا الطرح مناصرو الحرية ونفاتها وأصحاب الكسب والتوسط
وكذلك دعاة التحرر.
1.أنصار الحرية
• اليوناني أفلاطون: حرية الاختيار مبدأ مطلق لا يفارق الإنسان وهو مبدأ أزلي يتخطى حدود الزمان
والمكان، وقد عبر أفلاطون عن هذا المبدأ في صورة أسطورة ملخصها أن الأموات يطالبون بان يختاروا
بمحض حريتهم مصيرا جديدا لتقمصهم القادم وبعد اختيارهم يشربون من نهر النسيان ثم يعودون إلى
الأرض وق نسوا بأنهم هم الذين اختاروا مصيرهم ويأخذون في اتهام القضاء والقدر في حين أن الله
بريء.
• المعتزلة في الفكر الإسلامي: ما يدل عندهم على إن الإنسان يمارس أفعاله بإرادته الحرة هو شعوره بها
أنها تصدر منه ويتضح ذلك في قولهم(( الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي
والصوارف، فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن.)).كما أن وجود التكليف الشرعي والجزاء
الذي يتبعه دليل آخر على حرية إرادة العبد ودليل على عدل الله.
• الفرنسي ديكارت: الحرية مثبتة بشهادة الشعور وحده من غير حاجة إلى أدلة وذلك من خلال قوله(( إن
حرية إرادتنا يمكن أن نتعرف إليها بدون أدلة وذلك بالتجربة وحدها التي لدينا عنها. لكن ديكارت يميز
بين حرية الاختيار الحقيقي وحرية اللامبالاة، فالأولى تتم بالاختيار بين عدة بدائل استنادا إلى مبررات
ذاتية، أما الثانية ففيها يستوي الضدان((الإثبات والنفي)) بلا رجحان.
• الفرنسي برغسون: يصف الحرية بقوله((إنها معطى مباشر للشعور.))، كما أن شعورنا بالحرية متغير
باستمرار بحيث لا يمكن أن تتكرر حالتان متشابهتان إطلاقا، وهذا يعني أن الحياة النفسية لا تخضع إلى
قانون الحتمية، كما أن الفعل الحر يصدر عن النفس بأجمعها، وليس عن قوة تضغط عليه أو عن دافع
يتغلب على غيره، وذلك من خلال قوله(( إن الفعل الحر ليس فعلا ناتجا عن التروي والتبصر، انه ذلك
الفعل الذي يتفجر من أعماق النفس. )).
• الفرنسي جون بول سارتر: لا فرق بين وجود الإنسان وحريته، فهو محكوم عليه بالاختيار والمسؤولية
وفي ذلك يقول(( إن الإنسان لا يوجد أولا ليكون بعد ذلك حرا، وإنما ليس ثمة فرق بين وجود الإنسان
ووجوده حرا.)) وقال أيضا(( انه كائن أولا ثم يصير بعد ذلك هذا أو ذاك. )).
استنتاج: ينتج عن هذه المواقف الكلاسيكية جميعها إن الإنسان حر حرية مطلقة ومن ثمة فهو مسؤول
ويتحمل عواقب اختياراته.
مناقشة مواقف مناصري الحرية
• إن القول بوجود حرية مطلقة في غياب كل إكراه داخلي أو خارجي هو موقف ميتافيزيقي مجرد لا
وجود له في حياتنا الواقعية، فأرادتنا لا يمكنها أن تقول للشيء كن فيكون، أنها لا تستطيع أن تنفلت خارج
الحتميات وتتحدى قوانين الطبيعة والنفس.
• كما أن الشعور بالحرية قد يكون مصدر خداع ووهم كما يصفه الفيلسوف سبينوزا فهو شعور أشبه ما
يكون بحجر رمي به من الفضاء وفي ذلك يقول((لو كان يتوفر على شيء من الشعور لظن في أثناء رميه
وسقوطه نحو الأرض انه يقرر مسار قذفته ويختار المكان والوقت الذي يسقط به)).
• كما نأخذ على الفيلسوف برغسون قوله بحرية الفرد المنعزل عن الآخرين.
• كما نسجل على الفرنسي سارتر حذفه لكل تمييز بين أفعالنا الحرة منها وغير الحرة ما دامت الحرية
تطابق وجود الإنسان،كما انه ينفي الحرية من حيث أراد أن يثبتها لأنه يعتبر إن الإنسان محكوم عليه
بالاختيار.
2.نفاة الحرية
• الحتمية الفيزيائية: الإنسان مثله مثل جميع المخلوقات لا يعدو أن يكون جسما يخضع لقانون الجاذبية
ويتأثر بالعوامل الطبيعية من حرارة وبرودة..الخ
• الحتمية الفيزيولوجية: وتتمثل في تأثير المعطيات الوراثية وتأثير الغدد الصماء والجملة العصبية وهي
التي تحدد الجنس والخصائص الجسمية.
• الحتمية النفسية: وتتمثل في تأثير الجانب اللاشعوري وتوجيهه للسلوك وهذا ما بينته نتائج التحليل
النفسي عن النمساوي سيغموند فرويد.
• الحتمية الاجتماعية: يؤكد علماء الاجتماع أن التصورات والأفكار والأفعال الصادرة عن الفرد راجعة
إلى تأثير المكتسبات الاجتماعية من عادات وقيم وأخلاق التي تشكل في مجموعها الضمير الجمعي.
• الحتمية الميتافيزيقية: وتتمثل في جبرية القضاء والقدر، قال بها الجهمية حيث ذهبوا إلى أن أفعال
الإنسان ليست اختيارية إنما يخلقها الله فينا على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، والأفعال تنسب إلينا
مجازا كما تنسب إلى الجمادات، فكما يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس أو
غربت كذلك يقال سافر فلان او نجح فلان....الخ.
3.أنصار التوسط بين الجبر والاختيار
• موقف الاشاعرة: يرى الأشعري أن الأفعال الصادرة عن الإنسان مشاركة بين الإنسان وخالقه،
فالإنسان يريد الفعل والله يخلقه.
4.أنصار التحرر
• الرواقيون: الإنسان يعيش عالمين عالم داخلي قوامه الحرية أي انه حر أمام ذاته وعالم خراجي قوامه
الضرورة، أي ليس حرا أمام العالم الخارجي لأنه لا يستطيع أن يؤثر في الأشياء الخارجية. وإذا كان
الرواقيون قد حاولوا التوفيق بين الضرورة والحرية فأن الضرورة تبقى هي الأصل في كل الأشياء، أما
الحرية فأنها تكتسب من خلال موافقة الإنسان لقوانين الكون ومحاولة فهمها لا معارضتها.
.الألماني كارل ماركس وصديقه فريدريك انجلز: يتمثل التحرر من خلال معرفة الإنسان لمختلف
القوانين الحتمية واستغلال نتائجها من الناحية التطبيقية، وفي هذا السياق قال ماركس((الحرية وعي
بالضرورة))وقال انجلز((فالإنسان لم يكن يتميز عن الحيوان لان سيطرته على نفسه وعلى الطبيعة لم
تكن بعد قد تحققت وبالتالي فان حظه من الحرية لم يكن يزيد عن حظ الحيوان منها، لكن المؤكد أن كل
خطوة خطاها في سبيل الحضارة لم تكن سوى مرحلة من مراحل تحرره. )).
• الشخصانية:باعتبارها فلسفة عمل وتحرر بقول رائدها ايمانويل موني((إن الحرية لا تكتسب بمضادة
الطبيعة إنما تكتسب بالانتصار عليها وبها. )).
استنتاج:ينتج عن هذه المواقف إن الإنسان فاقد للحرية ومن ثمة فهو غير مسؤول عن أفعاله أي لا يتحمل
نتائج ما يصدر عنه من تصرفات.
مناقشة آراء نفاة الحرية وأصحاب التوسط ودعاة التحرر
• إن الإقرار بالحتمية لا يعني تكبيل إرادة الإنسان ورفع المسؤولية عنه، فهناك فرق بين عالم الأشياء
وعالم الإنسان، فالأول يستجيب آليا لنظام الطبيعة والثاني يستجيب له وهو كله وعي وأكثر من ذلك
يستطيع أن يسخر لنفسه قوانين الطبيعة حسب إرادته بعد معرفتها والتحكم فيها، فالحتمية لا تتنافى مع
الحرية إن هي أخذت في هذا السياق على أنها تحرر.
• كما إن القول مع الجهمية إن ادعاء الحرية يتعارض شرعا مع مسألة الإيمان بالقضاء والقدر، قول
يناقض التكليف الشرعي وما يتبعه من جزاء، كما انه قول يدعو إلى التواكل والاستسلام والإفلات من
الواجب والمسؤولية.
استنتاج: من خلال ما سبق بيانه حول استعراض الحتميات ومناقشتها لنا أن نتساءل كيف تقوم المسؤولية
والشرط الذي يؤسسها لم يتأكد، إذ ليس من المعقول الحديث عن شيء يتوقف ثبوته أو نفيه على أمر
مجهول، ومع ذلك تبقى المسؤولية-كما سنرى-في منطوق الطرح الثاني قائمة يتحملها الإنسان بوصفه
إنسانا.
الجزء الثاني((المسؤولية مبدأ وشرط للحرية))
طرح يرى أن المسؤولية قضية سابقة لطرح قضية الحرية، بمعنى أن الإنسان يجب أن يكون مسؤولا أولا
ليكون بعد ذلك حران يمثل هذا الطرح رجال الدين وفلاسفة الأخلاق، ودليلهم في ذلك أن التكليف سواء
كان شرعيا أو أخلاقيا يسبق الحرية ويبررها بغض النظر عن العوامل التي تحيط بالمكلف.
• المعتزلة في الفكر الإسلامي: التكليف الشرعي الصادر من الله والذي يخاطب عقل الإنسان وأفعل ولا
تفعل إنما هو تحميل الإنسان للمسؤولية أمام أوامر الله ونواهيه باعتباره حرا وألا كان التكليف سفها
وباطلا، إذ لا يصح عقلا أن تقول لمن ليس حرا افعل ولا تفعل.والله سبحانه وتعالى يقول((لا يكلف الله
نفسا إلا وسعها. ))
• الألماني ايمانويل كانط: الواجب الأخلاقي يتضمن الحرية وذلك في قوله((إذا كان يجب عليك فأنت
تستطيع)) والواجب الخلقي ألزام داخلي مصدره الضمير الخلقي الذي يعاقب على الفعل السيئ بالأسف
والندم والحسرة، كما انه يثيب على الفعل الحسن بالرضى والقبول.
• مالرانش: حيث يرى أن المسؤولية مرتبطة اشد الارتباط بالقانون الأخلاقي نفسه وهو على حد تعبيره
الذي لا يجوز انتهاكه ونقضه لا من طرف العقول ولا من طرف الإله نفسه، وفي هذا المعنى يقول((إن
الذي يريد من الله أن لا يعاقب الجور أو إدمان الخمر لا يحب الله. ))
استنتاج: ما يؤكد وجود الحرية المسؤولية وما يؤكد وجود المسؤولية هو العقوبة المرتبطة بالقانون
الأخلاقي.
مناقشة منطوق الطرح الثاني
• إن المسؤولية البشرية لا يمكن أن تكون كاملة، لان حرية الإنسان نسبية فقد يرتكب أخطاء في حق الغير
من غير قصد منه.
• كما أن دعاة المسؤولية جعلوا من القصاص مرتبط بغايات أخلاقية فقط، فمعاقبة المجرم يحقق في
نظرهم شعوره بالذنب والندم عليه وفي ذلك تطهير وتأديب له وجعله عبرة لغيره، لكنها تجاهلت الأساس
الاجتماعي الذي يجب أن تبنى عليه العقوبة والمتمثل في حماية المجتمع ووقايته من الخطر، والنظر في
أسباب الجريمة وما يجب اتخاذه من إجراءات الدفاع الاجتماعي أما بمعاقبة المجرم أو إصلاحه أو
معالجته حيث اخذ الدور التربوي يحتل الصدارة في العقوبات.
استنتاج: ليس من السهل تقرير مدى مسؤولية الإنسان أمام نتائج أفعاله، لان ذلك مرتبط بإقامة الدليل على
مدى حرية الإنسان ومدى قدرته على التمييز بين الخير والشر وما عقده من نية قبل إقدامه على الفعل.
الجزء الثالث °°التغليب°°
• يعرف الإنسان بخاصية المسؤولية أكثر منه بخاصية الحرية، فالمسؤولية تنصب على الإنسان أولا
بدون التساؤل عن شروطها، فعندما يكلفك أستاذك القيام بواجب مدرسي لا يسألك هل أنت حر أم لا، انه
يفترض وجودها مسبقا، كما تظهر المسؤولية عند اعتذارنا عن أخطاء ارتكبتاها في حق الغير من دون أن
نقصد إلى فعل ذلك.
• كما أن ما يهم القاضي بالدرجة الأولى هو معرفة من قام بالفعل وما الذي ترتب عن الفعل من نتائج أكثر
من اهتمامه بدوافع الفعل، رغم اخذ القاضي بها بعين الاعتبار كظروف مخففة.
• وما يؤكد مسؤولية الإنسان إن الله جعله خليفته في الأرض ومنحه عقلا يميز به بين الخير والشر وإرادة
يوجهها كيفما يريد وذلك جلي في قوله تعالى في سورة الاحزاب72((أنا عرضنا الأمانة على السماوات
والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقنا منها وحملها الإنسان، انه كان ظلوما جهولا.)).
الخاتمة((حل المشكلة)): إن موضوع المسؤولية والحرية يرتبط اشد الارتباط بجوهر الإنسان، فكما أننا
نقول في مجال الفلسفة أن الإنسان حيوان عاقل مهما كانت حدوده الزمكانية، ومهما كانت ظروفه وسنه
وجنسه، نقول أيضا انه كائن مسؤول بقطع النظر عن وضعه وأحواله وسنه وجنسه