إنها تسبيحة نقية , بنية خالصة , ورجاء سامق رفيع , تتحرك بها الشفاة المخلصة , حركة مرتجية القبول , تنادي لقاء القلب الصادق في حينها , وتنطلق للملأ الأعلى , ترتسم عملا صالحا , وتصير عبادة مقبولة , " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن , سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " أخرجه البخاري
إنها الكلمة التي نملكها جميعا ولا نقدرها قدرها في كثير من الأحيان .
ترنيمة عابرة أو أزيز صداع مؤلم , سيف قاطع أوندى هين , فرحة مبثوثة أو غيمة حزن غائرة , سخرية أو مديح , تشجيع أو تثبيط , فصاحة أو عي , شجاعة أو تخاذل .
لقد رفع أقوام بكلماتهم , وسقطت مدائن بأحاديث أبنائها , وأنشئت علاقات دولية بتعبيرات مجادة , ونشأت حروب بخطب متغابية , تقارب أناس بتعبيرات صادقة وتفرق آخرون ببضع أحرف جافة !
والكلمة للدعاة إلى الله قيمة عليا , وحساب دقيق , وانتقاء دائم , ورؤى واضحة بينة .
والكلمة للقائد فكرة , ومبدأ , والتزام , وعهد , وحسم وحزم وقرار , والكلمة أمانة مؤداه , فمقصر في أدائها محاسب ومعاقب , ومؤد لها مثاب ومكافأ .
والكلمة للمنافقين كنز مغصوب , وهي للوصوليين والمتسلقين سلم خلفي للمداهنة والترقي في المناصب , كما أنها لقليلي التقوى كسب ومال وطريقها الشبهات وإنفاق السلع بالحلف الكاذب .
وهي للظالمين زور ينتشر , ومخالفة للحقائق تعلن , وضياع للحقوق يفترى , وقناع للقبح بألوان مؤقتة , فكم من سجين لأجل كلمة قالها في موقف ليرد بها باطلا أو ليعلي بها مبدأ , وكم من طريد لأجل كلمة لم ينمقها لتنال رضا الناس , وكم من محاصر لأجل كلمة يأبى أن يقولها فيعترف فيها بالبهتان .
ومنبت الكلمات قناعة قلبية ورؤية عقلية , فهي دليل على ما يدور في العقول وتعتقده النفوس , ومزرعة الكلمات نوايا الصدور عند كل إنسان , فتكبر في صدره الكلمات لتخرج بركانا ثائرا , أو تخرج قطرات مكثفة على مرآة زجاج .
وسوق الكلمات منتديات المرفهين , ومؤتمرات النافذين , وخطابات الإعلاميين , فكلماتهم مباعة , وتعبيراتهم هامشية مزوقة , فالهدف الغالب منها المنفعة الذاتية , وتملق أصحاب القرارات .
وكلمات الحزبيين أسلحة بيضاء في جيوبهم , ومخالب جارحة بين أصابعهم , وسياط هاتكة في قبضاتهم يلهبون بها ظهور مخالفيهم ويضطرونهم للاختيار بين السكوت أو النزف , يسيئون إليهم بها عند الخلاف , فينسون الوفاء ويكتمون الحق , ويدارون على الصواب .
إن أناسا قد استهانوا بمشاعر غيرهم فراحوا يكيلون لهم جارح الكلمات في وجودهم تارة وفي غيبتهم تارة , فكان لهم في كل ساعة كليم من حديثهم وهم لايأبهون , وآخرون أفقدوا كلامهم قيمته بمداراة باهتة , أو بمزحات فارغة , فخسروا قيمة الجد الوقور , وحاموا حول حمى الكذب يوشكوا أن يرتعوا فيه , فيا فلاح قوم راقبوا ربهم في كل حرف , وياويل آخرين ارتكسوا في حمأة الاجتراء على عباد الله الساكتين إلا عن الخير !
إنها رسالة مؤثرة في النفوس إما سلبا او إيجابا فكم من الناس رفعتهم كلمة وكم من الناس أحبطتهم ووضعتهم كلمة , لقد صور القرآن كلمات الخير التي تنبع عن قلب طاهر نظيف ونية صادقة كخلصة كأنها الشجرة ذات الجذور الثابتة والراسخة في الأرض، والأغصان العالية التي تكاد تطال السحاب ، لا تنال منها الرياح ، ولا تعصف بها العواصف ، فهي تنبت من البذور الصالحة، وتعيش في الأرض الصالحة، وتجود بخيرها في كل حين، ثم تنعم بالظلال الوارفة، وبالثمار الطيبة التي ينتفع منها الناس .
أما كلمة السوء التي تخرج فيراد بها المكر والخديعة أو النفاق والرياء أو السمعة والدعاية ، فهي ضارة تضر صاحبها، وتضر ناقلها ، وتضر متلقيها، وتضر كل من نطق بها، وتسيء لكل سامع لها، فهي كالشجرة الخبيثة، أصلها غير ثابت، ومذاقها مر، وشكلها لا يسر الناظرين، أنها في حقيقة أمرها هزيلة ضارة .
ولم يجعل القرآن الكلمات مجرد مقولة فقط , بل بين في موضع آخر وآية أخرى أنها مرتبطة بالعمل الصالح , فيقول القرآن الكريم : " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فأخبر أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلم الطيب يثمر لقائله عملا صالحا في كل وقت .
والرسول الحبيب صلى الله عليه وسلم أنقى الناس وأصدق الناس يؤكد المقالة ويوضح الفكرة ويعلي المسئولية فيقول : " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات , وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي بها بالا يهوى بها في نار جهنم " ( البخاري )
بل إنه ليعتبر أن على المرء ألا يقول إلا خيرا ونفعا وأنه لو أراد أن ينطق غير ذلك فالأولى له أن يصمت , فهو نوع واحد يجب أن يدرب المؤمن لسانه عليه من الكلمات فيقول صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت " ( البخاري )